.. الواضح أنّ الباحثين في تراثنا ، لم يمهلوا القديم من هذا التراث إلاّ أنّه أسطوري ، و لم يمهلوا الأسطورة إلاّ أنّها تعنى بالخرافات و اللامعقول و أقاصيص الآلهة ، وواضح أيضا أنّ هذا الفهم لم يتأتّ بعد درس صادق و عميق للأساطير و التراث القديم ، قدر ما نبنى على حكم تأسّس على فهم شائع عن الأسطورة كخرافة و تلفيقات بدائية لا أساس لها ، و لأنّ العرب احتسبوها أباطيل ... و من هنا جاء اهتمامنا بالأسطورة و بدراستها ، ضمن دراستنا للتراث ، بحسبانها من أهم أعمدته ، و قد بدأنا ذلك بمجموعة بحوث نشرت تباعا يجمع كتابنا هذا اليوم اهمّها ...
عادة ما نجد في الأساطير مشاعر إنسانية جيّاشة ، و أحاسيس ، و تصوّرات و مواقف ، تطلعنا على فلسفة الإنسان في الوجود ، و على محاولاته الفكرية الأولى ، و التي تتضمّن خلاصة تجاربه و ماضيه ، و كيف كان يستنتج من هذه لتجارب منطقه و مفاهيمه و تعامله مع واقعه ، وفق منطق خاص ، ووفق مضامين أخلاقية ، تمّت صياغتها في قوالب أدبية ذات خصوصية ، توارثتها الأجيال و عدلت فيها و أضافت إليها ، مما جعل الأسطورة محل عمل دائب لا يتوقّف ، فهي حفرية حيّة ، و رغم كونها تأكل بعضها بعضا ، و تتناسخ و تتكرّر إلاّ أن لها تاريخا حيّا يمكن قراءته في تفاصيلها التكوينية ، إذا بذلنا الجهد اللازم للتعامل مع كائن حي يعيش منذ ألوف السنين بما دخل عليه براءة كل حركات و سكنات هذا الحي العظيم و العريق .
و عليه فنحن نرى الأسطورة تسجيلا للوعي الإنساني و اللاوعي في آن معا ، و أنّها أخذت مسارا تطوريّا بطيئا ، استثمرت أثناءه مبدأ لا يزال بحاجة لتفسير ، لكنه قائم ، وهو أن كل عنصر من الماضي يفرض نفسه و تأثيره على الجماهير بقدر لا يقاوم، و لايقف أمامه أي اعتراض منطقي ، و حتى اليوم ، و بعيدا عن نطاق السلوكيات الدينية و طقوسها و عقائدها ، يمكننا أن نجد مظاهر سلوكية لا معقولة و لا مبررة ، و لا يبقى لتفسيرها سوى البحث في جذورها بحسبانها أحد مظاهر ذلك الحفري الحي / الذي كان يصر على الاستمرار ...
و كنتائج لرحلتنا مع الأساطير القديمة يمكننا المجازفة بالقول : إنّ الأسطورة و إن اشتملت على أحلام و انفعالات و تصوّرات و أخيلة ، فإنّها اشتملت أيضا على حقائق يمكن أن تنكشف بوضوح إذا عرفنا كيف نفسّرها بعد ربطها بشرطها التاريخي ، و مكانها في النسق المعرفي.