الـرّغـاطة


إن التحوّل السّريع في نمط العيش لدى المجتمع التونسي في العشريات الماضية انجَرّ عنه نمط عيش جديد، أصبحت فيه بعض الأشياء التي كنا ننظر إليها من الكماليات ضروريات ملحة، فتغير مفهوم الزّمن و أصبح السعي وراء الكسب المادي هو الهدف و الهاجس المؤرق لكل شرائح المجتمع التونسي. أمام هذا التحوّل السّريع، غاب ركن هام من أركان التكافل الاجتماعي و هو الرُّغَاطة.و قد كانت عاملا هاما في القيام بعدة أشغال تطوعا و بدون مقابل، فترميم المساكن يتم عن طريق الرّغاطة ( أيام عمل تـُقدم في شكل سلفة يوم إليكَ و يوم عليك ، المتسلفة مردودة ), كذلك بعض الأشغال تتم جماعيا مثل اعداد ( فَنْكر أو مَجْيرة ) و ما يتطلبه الفنكر من توفير للحجارة الهشّة و الحطب الذي يبقى يشتعل لعدّة أيام مثل "مردومة الفحم" لكي تلين الحجارة و تصبح جبسا رطبا صالحا للبناء. و يبرز مفعول الرّغاطة الايجابي عند القيام بالأشغال الفلاحية كعزق الأرض في بساتين الواحة لاعدادها لزراعة الخضر الورقية أو الأعلاف، يتم كل ذلك في كنف الحميمية بين الفلاحين أو المناطة بعهدتهم بساتين الغير. هذا في الواحة أما في البادية تبرز الرّغاطة في موسم الجز "عيد الكبش" تتواصل مُدته إلى عدة أيام حسب أعداد القطيع فتقام أثنائه الولائم، عند افطار الصباح تُقدم "الرّفيسة: بسيسة ممزوجة بالتمر و السّمن" إلى جانب خبز الطاجين "الحمّاس". و في موعد الغداء يقدّم الكسكسي في "قصعته" الكبيرة يتوسّطها "المسلانْ"، و عيد الكبش مهرجان مُصغر تتخلله الزّغاريد و يتصاعد البخور في الفضاء بعد أن يتشمّمه فحل القطيع و توزّع كؤوس الشاي.
 
كما تتجلّى لدى النسوة في الصناعات التقليدية و خاصة المنسوجات الصوفية, فقبل انتصاب النّول تمر بعدّة مراحل ، غسل الصّوف و تجفيفه ثم يأتي دور المُشط, "القرداش" و غزل "الجدّاد" ثم "الطُعمة" و آخر مراحله الصباغة ليتحوّل إلى المنساج أو الخشب (النول) هذهِ المراحل تتم بمساعدة الرّغاطة،
و من الأشغال الهامة لدى النسوة في سالف الزّمن إعداد العولة من رحي للحبوب و البهارات بواسطة الرّحى المنزلية. تتجّمع النسوة في أيام معدودات من أيام الصيف لتحضير "الكسكسي" و "المحمْصة" و "الرّشتة". بعد ذلك تُعرض العولة لأشعة الشمس لعدّة أيام ثم يقع حفظها. و للرغاطة أجواؤها الاحتفالية تتمثل في الأكل الجماعي و تقديم الشاي, هي عادة ما يتخلل أشغالها الغناء بأصوات النسوة، و أثناء الجز يتحوّل الغناء بأصوات الرّجال هكذا كانت أيام جيلي أرويها لأبنائنا لأن هذه المناخات و الجزئيات لها جمالها و روعتها.

رمضان لطيفي